فصل: المبحث السابع: الشورى ومدى إلزاميتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.المبحث السابع: الشورى ومدى إلزاميتها:

إنه مما لا شك فيه أن الشورى واحدة من المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم، أمر بها الشارع سبحانه وتعالى لتكون أداة لتقويم الفكر وتدعيم الرأي ووحدة الصف واحترام العقل الذي زود الله به الإنسان وفضله على كثير مما خلق من خلقه تفضيلاً، والشورى يمكن أن تتوحد بها الصفوف فتتوحد الأمة حتى تكون كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً، فهي التي تجسد مبدأ الأخوة الإيمانية التي هي جزء من عقيدة الإنسان المسلم الذي جاءت من عند الله وليست أمراً يقره أحد أو يرفضه، وإنما جاءت الشورى من السماء بأمر من عند الله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فهي بلا شك تجسد مبدأ الأخوة الإنسانية وتحافظ على رابطة الأخوة الإيمانية، وقد أمر الله بالأخوة عباده المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقوله جلت قدرته في سورة الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، فالأخوة الإيمانية هي رابطة عقائدية يترتب عليها حقوق وواجبات؛ فلا يمكن أن تؤخذ الأخوة في الله معزولة عن سائر الوشائج والروابط والعلاقات وسائر الأحكام والقواعد والأسس في منهاج الله؛ ولكنها تؤخذ على تناسقها كاملة تامة، والله جل وعلا دعا المؤمنين إلى التعاون والتناصح والتآزر. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
والموالاة تقتضي الإعانة والنصرة والتناصح، والقرآن يدعو الأمة المؤمنة إلى الاعتصام بحبله ومنهجه وشريعته حيث يقول جل شأنه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}.
والشورى فيها تطييب للنفوس وجمع للكلمة واستخراج للرأي السديد، فالقرآن يأمر الرسول بالمشاورة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ برأي الأغلبية، وقد استدل القائلون بوجوب الشورى وإلزاميتها بعدة أدلة من الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وجه الاستدلال أن هذه الآية نزلت بعد غزوة أُحد والتي كان قرار الخروج فيها مبنياً على الشورى وأخذه صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأي الأكثرية فنزلت هذه الآية بعد النتائج الأليمة التي حلت بالمسلمين تأمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالعفو عنهم والاستغفار والمشاورة حتى لا يظن ظان بضرورة استبعاد الشورى، فإذا أمر الله بها رسوله وهو أرجح الناس عقلاً فالأمر في حق غيره من قادة المسلمين أولى وأوجب، فصيغة الأمر عند علماء الأصول تفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك، وهذه الصيغة: {وَشَاوِرْهُمْ} صيغة أمر وهي تدل على وجوب الشورى ولم ترد نصوص أخرى تصرفها إلى الندب بل جاءت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا الوجوب وتؤيده، ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير ظاهر الأمر للوجوب فقوله: {وَشَاوِرْهُمْ} يقتضي الوجوب.
ويقول أبو حيان في البحر المحيط: في هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والفكر فيه وأن ذلك مطلوب شرعاً.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار عن الآية وشاورهم في الأمر العام أي الأمر الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دُم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر والخطر على الأمة من تفويض رأيها على الرجل الواحد أشد وأكبر.
وقد اعترض على هذا الاستدلال بعدة اعتراضات أوردها الدكتور خالد أحمد أبو سمرة وهي تتلخص في التالي:
الاعتراض الأول: أن هذه الآية خاصة بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وليست عامة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد روى البيهقي في السنن الكبرى: عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وللرد على هذا الاعتراض فقد نقل الفخر الرازي في تفسيره رد الواحدي على ذلك حيث يقول: روى الواحدي في الوسيط عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الذي أُمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعندي فيه إشكال لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أُمر بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر رضي الله عنه كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر رضي الله عنه ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية، ثم إن وقائع السيرة تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما قصر الشورى على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد غزوة أحد بل كان يستشير غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.
الاعتراض الثاني:
أن الأمر في الآية يدل على الندب وليس الوجوب وذلك لأن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمشاورة أصحابه لا لأجل أنه محتاج إليهم بل تطييباً لنفوسهم رضي الله عنهم فقد جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: فقالت طائفة ذلك في مكايد الحروب وعند لقاء العدو وتطييباً لأنفسهم فما أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وجاء في التفسير الكبير للرازي {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} لا لتستفيد منهم رأياً وعلماً، وللرد على ذلك نقول أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سيرته العملية كان يستفيد من آراء من يشيرون عليه، فقد أخذ برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه في موقع نزول الجيش في غزوة بدر، وأخذ برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وغيرها كثير من الوقائع، ثم إن مجال الشورى كما أوضحنا هو في غير الأمور الموحى بها من مثل أمور الحرب والأمور الدنيوية والتي تخضع لتجارب البشر وخبراتهم والله سبحانه وتعالى لم يخبر أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم البشر في تلك الأمور، والفخر الرازي يقول في تفسيره فيما يرى من فوائد الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمشاورة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كان (أكمل الناس عقلاً إلا أن علوم الخلق متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجه المصالح ما لا يخطر بباله).
الاعتراض الثالث:
أن معظم المفسرين قالوا إن الأمر في الآية ليس من نوع الأمر الواجب إنما مراده الندب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤيد بالوحي ليس بحاجة إلى الشورى، وقد أغناه الله عن ذلك بتسديد خطاه وتوفيقه للصواب وتعلل أسباب نزول هذه الآية بأنها للاستحباب واستجلاب قلوب المؤمنين وليقتدي المؤمنين بصنيعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بعده ويصير سنة متبعة، وللرد على هذا الاعتراض يقول الدكتور محمد أبو فارس في كتاب حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها أن القول بأن معظم المفسرين قالوا أن الأمر في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ليس من نوع الأمر الواجب وإنما مرده إلى الندب ليس صواباً ولا دقيقاً فإن القارئ لكتب التفسير قلما يجد أن مفسراً يقول: إن الأمر للندب، وأن جماهير العلماء يقولون بوجوب الشورى اعتماداً على قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ} إذ الأمر يدل على الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب بل جاءت القرائن والتطبيقات العملية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه تفيد الوجوب، ثم إن القول أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤيد بالوحي وليس في حاجة إلى الشورى ليس صحيحاً على إطلاقه ذلك لأن القضية لا تعدو أمرين:
الأول: أن تكون القضية من أمور التشريع وهذا خارج عن موضوع المسألة.. (فأمور التشريع المنصوص عليه لا نقاش فيه، وما لم يرد فيه نص فإنه يجب الرجوع إلى طرق الاستنباط المعروفة بضوابطها وسبق وأن أشرنا إلى ذلك).
الأمر الثاني: حين تكون القضية ليس موحى بها ولا نص ورد في الكتاب والسنة يتضمن الحكم بها فالرسول بحاجة إلى آراء الناس ومشورتهم، ولهذا كان يقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان يستفيد من هذه الآراء فيأخذ بها ويذر رأيه، ثم أن تعليل الشورى بأنها تجلب قلوب المؤمنين ولكي يقتدي المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصنيعه ويصير سنة أن هذه الأمور وأشباهها تأتي في حكم الشورى وفوائدها وليست علة لها ولو سلمنا جدلاً أن هذه الحِكَم علل فإنها تدل على وجوب الشورى لا على أنها مندوبة لأن استجلاب قلوب المؤمنين والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واجب وبخاصة في القرارات المتعلقة بمصير الأمة ولا تتحقق أيضاً إلا إذا كانت الشورى واجبة.
أما الاستدلال بقوله جل وعلا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فقد قال الشيخ محمد رشيد رضا إن مجيء النص في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضاً حتماً، وقد نوقش هذا الاستدلال واعتُرِض عليه بأن هذه الآية تتحدث عن صفة من صفات الأنصار التي كانوا يتحلون بها قبل الإسلام وبعده؛ وهي أنهم كانوا لا يبرمون أمراً إلا بعد الشورى، قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط قيل نزلت في الأنصار دعاهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له وكانوا قبل الإسلام وقبل أن يقدم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة إذا نابهم أمر تشاوروا فأثنى الله عليهم لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه، وقد رد على هذا خالد أبو سمرة بقوله أن النص مطلق وليس مقيداً بالشورى الخاصة بالأنصار، مستدلاً على ذلك بما قاله الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير حيث يقول: والمقصود منها ابتداءً هم الأنصار... ومعنى ذلك أنه من المؤمنين الذين تأصل فيهم خلق الشورى... وإذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرأي والصواب وكان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى الله بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان وأي أمر أعظم من أمر الإيمان.
ويقول الأستاذ سيد قطب: التعبير يجعل أمرهم كله شورى ليصبغ الحياة بهذه الصبغة، وهو كما قلنا نص مكي كان قبل قيام الدولة الإسلامية فهذا الطابع أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد، ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها أنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية وهي ألزم من صفات القيادة.
إذاً فالشورى جزء من كيان الجماعة المسلمة وسلوكها ولا مجال لتقييدها بما كان من الأنصار، وبالشورى يحصل اجتماع الكلمة واجتماع الأمة، وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً كبيراً فعليكم بالسواد الأعظم»، ويقول الشهيد عبدالقادر عودة في التشريع الجنائي: أن الشريعة قررت الشورى كمبدأ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعة أن يضعوا معظم القواعد اللازمة لتنفيذه، لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات، أما القواعد الأساسية الخاصة بتطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه وهي أقلية فقد بينت الشريعة أحكامها ولم تتركها لأولياء الأمور، وهذه القواعد حكمها حكم مبدأ الشورى لا تقبل التعديل ولا التبديل لأنها قواعد جاءت بها نصوص خاصة، والقاعدة أن ما نص عليه لا يبدل ولا يعدل، ومن هذه القواعد الأساسية التي توجب الشريعة اتباعها في تطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه أن تكون الأقلية التي لا يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأغلبية وأن تنفذ بإخلاص باعتباره الرأي الواجب الإتباع، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية، وليس للأقلية أن تناقش أمراً اجتاز دور المناقشة أو تشكك في أمر وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول التي سنها للناس والتي يجب على الناس اتباعها طبقاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، والذي يتضح من عرض الأستاذ الشهيد عبدالقادر عودة: أن الشورى وسيلة للالتزام والتعاون ولا ضير من اختلاف الرأي فالثابت في هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأخذ برأي الأغلبية وأنه إذا تمت الاستشارة وجب الأخذ بها لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
ويقول الدكتور محمد العوى أن المقصود بالشورى هو تمكين الأمة من أن تقرر ما تراه صالحاً لها في شئونها العامة بطريق تمنع الاستبداد وتحول دون نشوء دكتاتورية لحاكم عبقري أو لزعيم فذ مهما كان إنجاز هذا الحاكم أو الشخصية لذاك الزعيم مثيرة أو مؤثرة.
ويقول العوى أيضاً: إذا تبين هذا فإنه يصبح بيناً أن الحاكم وقد وجبت عليه الشورى يجب عليه أن يلتزم نتيجتها التي ينتهي إليها رأي أكثر المشيرين، وأنه لا دليل يصح الاستناد إليه في تأييد من ذهب إلى أن الشورى معلمة وليست ملزمة وإنما الذي تدل عليه الأدلة جميعاً من فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه أن الشورى متى انتهت إلى رأي وجب على الإمام أو الحاكم تنفيذه، ومن الجدير بالإشارة إليه أن فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أحد لقتال المشركين خارج المدينة واضح الدلالة على هذه القاعدة وعلى قاعدة التزام رأي الأكثرية ولو خالف رأي الحاكم أو رأي غيره من أولي الرأي.
وقد ذهب فريق من العلماء إلى القول بأن الشورى إنما هي للاستنارة والتوضيح فهي للإعلام لا للإلزام، وقد أورد الدكتور عبدالحميد إسماعيل الأنصاري في بحثه إلزام الشورى ومبدأ الأكثرية في الإسلام أدلة القائلين بأن الخليفة مخير في قبول رأي أهل الشورى أو رفض ذلك، ورأي من يقول بأن الإمام في الإسلام ملزم برأي أهل الشورى ويجب عليه تنفيذ ما اتفقوا عليه ورجح رأي من يقول بأن الشورى ملزمة لا معلمة، والحقيقة أن العمل بمبدأ الشورى كمرجعية للحكم والسياسة، يتطلب أن تكون ملزمة وممارستها يكون قولاً وعملاً حتى تكون صفة لازمة امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، والمتبين من استعراض كيفية الشورى التي تمت في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين أن الشورى أتت بصور مختلفة، وأنها لا تكون إلا في الأمور الاجتهادية، وأن من صورها ما يستشار فيه الكافة ويصلح الاستفتاء فيه ومنها ما لا يصلح إلا لجماعة متخصصين من العلماء وذلك في مسائل التشريع مما لا نص فيه ونحو ذلك من الأمور الهامة وهذا لا بد من الرجوع فيه إلى أهل الاختصاص، وإذا تباينت وجهات نظرهم لا بد من ترجيح رأي الأكثرية وهذا هو المنهاج النبوي كما عرفنا ذلك من نماذج الشورى التي نقلناها من الهدي النبوي وسير الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، أما الآيات التي يستدل بها من لا يقول بإلزامية الشورى فهي تتحدث عن الكفار أو عن المشركين أو عن غير المؤمنين في الغالب أو عن رعاع الناس ممن يجهل حكم الله وأمره ونهيه ممن ليسوا محل استشارة ولا يمكن أن يكونوا أهل اختصاص وأغلبية في المجالس التشريعية، وقد سبق أن أشرنا إلى ضوابط التصويت في مجالس الشورى الإسلامية الذي يعتد به فليرجع إليه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن مبدأ الأكثرية مبدأ غير إسلامي؛ غير أن هذا قد رد عليه في موضوع الشورى، من ذلك ما ذكره الدكتور عبدالحميد الأنصاري حيث يقول بأن هذا المبدأ معروف في التفكير السياسي الإسلامي منذ قرون بعيدة، فالإمام الغزالي في كتاب الرد على الباطنية يقول أنهم لو اختلفوا في مبدأ الأمور وجب الترجيح بالكثرة، ولأن الكثرة أقوى مسلك من مسالك الترجيح، وينقل عن ابن تيمية قوله في مبايعة أبي بكر رضي الله عنه قوله: وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة، وعن الماوردي قوله في الأحكام السلطانية: وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام عمل على قول الأكثرين.
ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاور أصحابه وأعرض عن رأي الغالبية، فقد سبق من الأمثلة على ذلك، ففي بدر حيث شاورهم للخروج للعير ابتداءً وشاورهم عندما خرجت قريش لتدافع عن عيرها وشاورهم في الأسرى وفي كل ذلك نزل على حكم الأغلبية، وفي أحد شاورهم في الخروج ونزل على حكم الغالبية وهو كاره، وفي الخندق شاورهم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة ونزل على حكم السعدين في عدم المصالحة، وفي الحديبية عندما استشارهم في قتال من تحالفوا مع قريش وأخذ برأيهم في عدم القتال، وفي حصار الطائف عندما لم يرض المسلمون بالرجوع أمهلهم حتى طلبوا بأنفسهم الرجوع، وقد وردت أحاديث في شأن الأكثرية تحث على الالتزام برأي الجماعة أو بالسواد الأعظم أو بالأكثرية، ويفهم منها أن الجماعة أقرب إلى الحق والصواب من الفرد فمنها:
- ما روي عن جابر بن سمرة خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كقيامي فيكم فقال: «من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد». وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار»، والأخذ بالأكثرية معمول به عند علماء ومؤرخي المسلمين الأوائل، فالخبر الواحد بأمر لا يفيد العلم بل الظن بعكس خبر الجماعة المتواترة فإنه يفيد العلم فيكون الأمر في الاجتهاد الفقهي والإجماع كذلك وينعقد الإجماع برأي الأكثرية كما أن كثرة الرواة ترجح صدق الرواية وكذلك، كثرة المجتهدين في جانب واحد ترجح صحة رأيهم كذلك.
فالإجماعات التي نقلت عن عهد الصحابة إنما هي اتفاق الأكثر، وأخيراً يقولون أن الكثرة ليست مناط الصواب أو حتى دليلاً قاطعاً أو راجحاً عليه، إذ أن صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي لا من كثرة أو قلة القائلين، ويستدل أصحاب هذا الرأي بآيات من القرآن تذهب حسب زعمهم إلى أن الكثرة جاهلة وأنها مذمومة فمنها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ومنها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} ومنها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} ومنها: {وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ومنها: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} ومنها قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} ومنها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} ومنها قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} ومنها قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}.
وقد ناقش الاستدلال بهذه الآيات الدكتور عبدالحميد الأنصاري وقال أن قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} وردت في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم منها الآية (21) من سورة يوسف وهي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فالسياق يعدد نعم الله على يوسف عليه السلام وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس يتجاهلون هذه الحقيقة ولا يقدر نعمة الله عليه بسبب انصرافهم إلى شئون الدنيا، وواضح أنه لا علاقة للآية بموضوعنا (أي موضوع الشورى) أما الآية (40) من سورة يوسف فقد ورد فيها: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} وواضح أن الآية في شأن غير المسلمين، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، فالآية في شأن أمور الدين والآخرة وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} ونصها: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} وواضح أن الآية في فضل الشكر على الهداية وقوله تعالى: {وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وهي الآية (103) من سورة يوسف والآيات بعدها: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وواضح أن الآيات في شأن الإيمان بالله مع المشركين، أما قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} فهي جزء من الآية (36) من سورة يونس ونصها: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وقبلها الآيات: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إلى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فالآيات إذًا في شأن الكفار وكذلك الآية: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الآية (116) سورة الأنعام فهي من شأن أهل الكتاب والكفار بدليل السياق قبلها والآية التي بعدها: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، أما الآية: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} فهي جزء من الآية (111) من سورة الأنعام وهي: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} والآية في غنى عن الشرح، أما الآية: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فهي جزء من الآية (24) من سورة ص ونصها: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فشأن المؤمنين ألا يبغي بعضهم على بعض، ولا أدري ما علاقة هذه الآية بموضوعنا- أي موضوع الشورى-، والآية {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} وهي جزء من الآية (100) من سورة المائدة وبقيتها: {فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فهو تحذير لأهل العقل أن يغتروا بكثرة الباطل وانتشاره، فالشيء إذا كان خبيثاً في أصله فكثرته وانتشاره لا تجعله طيباً بل يبقى على خبثه، وهل نحن ادعينا أن كثرة أي شيء مطلقاً يدل على صحته وطيبته أم دعوانا منحصرة في أكثرية المؤمنين على مسألة خلافية.
فالآيات لا علاقة لها بموضوعنا لا من قريب ولا من بعيد فبعض الآيات في شأن الكفار وبعضها متعلقة بشأن العقيدة والدين والآخرة، فلا علاقة للآيات بمسألة ذم الكثرة في مسألة الانتخابات وشئون السياسة والحكم، إذاً فاستدلال البعض بالآيات السابق شرحها لإثبات أن الكثرة جاهلة وأنها مذمومة غير صحيح، وكما قال الأستاذ عبدالقادر عودة في الإسلام وأوضاعنا السياسية: وربما صح عقلاً أن يأتي رأي الأكثرين خطأ ورأي الأقلين صواباً ولكن هذا نادر والنادر لا حكم له، والمفروض شرعاً أن رأي الأكثرين هو الصواب ما دام كلهم يبدي رأيه مجرداً لله، وأساس ذلك قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة»، وفي رواية: «سألت الله أن لا تجتمع أمتي على ضلالة وأعطانيها» فالله يسدد دائماً خطى الجماعة ويوجهها إلى الرأي السديد، من هذا يتضح أن الشورى ملزمة وأن هذا ما عنته الآية الكريمة: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وليس العكس كما صوروه أو هو دال على الأخذ برأي الأكثرية فقد روي عن علي رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن العزم قال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم»، فكأن الآية تقول دم على استشارة أصحابك ودم على أخذ رأيهم ولا تكونن هذه النتيجة الخاطئة (هزيمة المؤمنين في أحد) مانعة لك من الأخذ بالشورى ورأي الغالبية مستقبلاً، ونحن لو فرضنا جدلاً أنه ليس في الشريعة الإسلامية ما يقرر بأن الأخذ بحكم الأكثرية واجب فإنه ليس هناك أيضاً ما يحرم ذلك في الشريعة، لذا نرى أنه من باب المصالح المرسلة أن نأخذ بمبدأ الأغلبية، وبيان ذلك أنه في إلزام الحاكم برأي الأغلبية منافع عظيمة للأمة، إذ أنه يحول بين الحاكم وبين الاستبداد، ويجعل للرأي مكانة ومنزلة ولجمهور الشورى منزلتهم ومكانتهم ويعصم من الآراء الفردية المرتجلة التي قد تدمر الأمة بأسرها، فإن وجوب الشورى على الأمة الإسلامية يقتضي التزام رأي الأكثرية، والواقع أن الشورى لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية وأما أن يستمع ولي الأمر لآراء جميع أهل الشورى ثم يختار ما يراه هو بنفسه بحرية تامة فإن الشورى تفقد معناها وقيمتها، وإذا قيل أن الشورى للاستنارة وظهور الرأي والصواب واحترام أهل الرأي والعلم وتطييب النفوس وتأليف القلوب فإننا نجيب بأن هذه المعاني هي من نتائج الشورى الملزمة، أما الشورى غير الملزمة فلا تحقق هذه المعاني وذلك كما يقول الجصاص: (لأنه كان معلوم عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم إلى استنباط ما شوروا فيه ثم لم يكن ذلك معمولاً عليه لم يكن في ذلك تطييباً لنفوسهم ولا رفعاً لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معول عليها ولكانت المشورة مدعاة للفتنة والانقسام)، وأما القول بأن الفائدة هي في ظهور الرأي الصواب والمظنون في الخليفة أن يأخذ به، فيرد بأن ما أدرانا أن الخليفة غير الملتزم بالأكثرية إذا أخذ بغير الأكثرية أنه قد أخذ بالصواب، والسؤال هنا من الذي يقرر أن هذا صواب أم خطأ؟ وهل الخليفة الفرد أم الجماعة؟ كما أن مبدأ المساواة الذي أكده الإسلام يجعل الخليفة واحداً من قادة المسلمين لا يختلف في ميزان الحق عنهم ما دامت صفات العلم والإخلاص والتقوى متساوية وما دام الناس في مثل هذه الحالات لا يستطيعون الجزم بأن هذا أفضل عند الله من ذاك، ولو كان الأمير غير ملزم برأي الأغلبية لكان هذا مدعاة لإلغاء رأي الأمة وإتلافاً لإجماعها وهي (أي الأمة) معصومة من الخطأ كما تقرر في الأصول، والأمير غير معصوم من الخطأ فكيف يحكم غير المعصوم على المعصوم، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو المعصوم قد سمح للصحابة رضي الله عنهم بإبداء آرائهم المخالفة لرأيه وأخذ برأيهم وترك رأيه لهم امتثالاً للأمر بالمشورة والالتزام بها، ومع ذلك لم يأت القرآن بتخطئته إذا أخذ بالأغلبية، بل أكد دوام المشاورة ودوام الالتزام فكيف يطلب منا ألا نخالف رأياً لإمام أو حاكم وهو غير معصوم، فلكي نسلم بوجهة النظر هذه لا بد من افتراض العصمة في الأئمة والحكام وأنهم دائماً على صواب، ولكن مبدأ العصمة لغير الأنبياء والرسل غير مسلم به ابتداءً لدينا، أما القول بأن الحكم في الإسلام للصفوة وأن العامة لا شأن لها بأمور الحكم وأن الشورى الإسلامية تبحث عن الحكمة والرشد عند أهل الذكر بدليل قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}، وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} فذلك مردود عليه بأنه لا شأن لتلك الآيات بالعامة فالسؤال لأهل الذكر فيما يخصهم لا يتعارض مع استشارة العامة في الأمور التي تخصهم، وأما أن العامة جاهلة فكيف تستشار؟ والرد أولاً أن هذه الكثرة لا بد أن تتعلم وهذه مسئولية المتعلمين ووسائل الإعلام وثانياً أن العامة عندها العلم الضروري بأمور معيشتها فهي تفرق بين الخير والشر وتعرف ما فيه صلاحها، فاشتراك الشعب في أمور الحكم وتجاربه في الخطأ والصواب هو خير وسيلة لتعليم أي شعب جاهل كما هو المدعى.
أما الدكتور عبدالله أحمد قادري وإن لم يكن من القائلين بإلزامية الشورى إلا أنه عند محاولته التوفيق بين الرأيين ناقش الموضوع وقرر رجحان من قال بإلزامية الشورى مقيداً ذلك بالعصور المتأخرة كما سنأتي على بيان ذلك، ورأى أن رأي الأكثرية يجب أن يكون ملزماً في اختيار خليفة المسلمين معللاً ذلك بعدة أمور:
الأول: عدم وجود ولي أمر للمسلمين وقت الشورى حتى يقال له أن يأخذ بما ترجح له ويبت في الأمر فأهل الحل والعقد هم أولوا الأمر.
الأمر الثاني: أن الإجماع في هذا الأمر قد يصعب لأن كثيراً من النفوس تتوق إلى الوصول إليه ولكل من يتوق إليه أعوان وأنصار، فإذا لم يكن للأكثرية هنا حق اتخاذ القرار لكان في ذلك فتنة وتأخير لأمر فيه ضرر على المسلمين.
الأمر الثالث: أن تأخر العدد القليل عن البيعة لم يكن مؤثراً في انعقاد بيعة عامة الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كما تأخر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ستة أشهر ثم بايع بعد ذلك بعد أن اعتذر لأبي بكر رضي الله عنه فعذره ثم اجتمعا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقام أبو بكر رضي الله عنه على المنبر فتشهد وذكر شأن علي بن أبي طالب وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر رضي الله عنه وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر رضي الله عنه ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكننا كنا نرى لنا من الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت فكان المسلمون إلى علي قريب حين راجع الأمر بالمعروف، وكذلك ما ذكر من تخلف بعض الصحابة وغيرهم عن بيعة علي رضي الله عنه بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ولم يؤثِّر تخلفهم في انعقاد الخلافة له.
الأمر الرابع: نص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأخذ برأي الأكثرية إذا اختلف الستة الذين جعل الشورى بينهم بعد وفاته وإن تساووا فُضِّل الجانب الذي يوافق رأيه رأي عبدالرحمن بن عوف، وكان ذلك إشارة من عمر رضي الله عنه أن عبدالرحمن بن عوف أمير القوم في هذه الشورى كما روى ابن سعد بسنده عن أبي جعفر قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحاب الشورى: (تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر) وفي رواية: (وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبدالرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا)، غير أن الدكتور قادري يرى أنه ليس لأحد أن يستدل بهذا النص على أن الشورى ملزمة للإمام الذي توافرت فيه شروط الإمامة، لأنه ورد في قضية اختيار الإمام في وقت لا يوجد فيه إمام وهي قضية عين لا عموم لها ويرد الاستدلال بذلك إصرار عمر رضي الله عنه على رأيه في القضايا التي وقعت في إمامته.
قلت وهو يشير بهذا إلى أمثلة منها إصرار عمر رضي الله عنه على أرض أهل العراق والشام ومتابعة الصحابة له على الرغم من إصرار بعضهم على خلافه، وقد سبق الإشارة إلى ذلك، وإيراد الحجج القوية على من قال بإلزامية الشورى، أما رأيه في ترجيح رأي من قال بإلزامية الشورى وتقييد ذلك بالعصور المتأخرة فإنه علَّلَ ذلك بقوله أن الذي يتأمل في واقع السلف في الماضي وواقع المسلمين الآن سواء على مستوى بعض الحكومات أم على مستوى الجماعات يرى أن لكُتَّاب العصر الحاضر في إلزام ولي الأمر وجهاً من الصواب، وأنه لا بد أن توضع حدود لتدبير ولاة الأمر وقيادتهم لشعوبهم أو لجماعتهم حتى لا يستبدوا بالأمر دونهم وليسوا أهلاً لذلك، وأن الظروف المعاصرة تحتاج إلى رأي جماعي يكون الصواب فيه أكثر من الخطأ، ولقد نظر هؤلاء الكُتَّاب إلى أسلوب الأخذ برأي الأغلب في بعض البلدان الأجنبية وقارنوا بينه وبين الاستبداد الذي يُتَّبع في أغلب الشعوب الإسلامية فوجدوا أن أسلوب الأخذ بالرأي الأغلب أنفع وأقل ضرراً من الاستبداد، وعندما رجعوا إلى المصادر الإسلامية وجدوا ذلك القلب الرءوف الرحيم وذلك العقل العظيم والخلق الفاضل الذي فسر به القرآن الكريم قدوة حسنة للناس، وجدوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكثر من مشاورة أصحابه ويستجيب لرأيهم في بعض الأحيان وفي بعض الأمور التي هي محل للاجتهاد ووجدوا بعض الألفاظ التي فيها نوع احتمال لما ذهبوا إليه فقرروا تلك القاعدة، أن الشورى إذا صدرت عن أغلب أهلها تكون ملزمة لولي الأمر، وهدفهم من ذلك تقييد سلطة ولي الأمر حتى لا يشتط ويخرج عن الحدود المقررة له، ولا شك في رجحان ما ذهبوا إليه في هذه العصور المتأخرة التي اغتصبت فيها أمور المسلمين واستبدَ بها المستبدون حتى لم تبق ضرورة من ضرورات الحياة إلا تعرضت للاعتداء والانتهاك، ولو أن الكتَّاب المعاصرين قيدوا هذا الحكم وهو كون الشورى ملزمة بظروف المسلمين المعاصرة وما أشبهها حيث لا يكون معظم ولاة الأمور متصفين بالصفات التي كان يتصف بها ولاة الأمور في السابق؛ لو أنهم قيدوا الحكم بذلك لما كان للاعتراض، عليهم وجه، ولكنهم أطلقوا ذلك وجعلوه قاعدة فاقتضى التحقيق بيان الحق فيه ثم نقل ما ذكره عبدالكريم زيدان في كتابه مجموعة بحوث فقهية، وهو من الذين يرون أن نتيجة الشورى ليست ملزمة لولي الأمر في الأصل حيث يقول: الرأي الثالث هو الأخذ برأي رئيس الدولة (مطلقاً) قوي سديد من الناحية النظرية ولكن لضرورات الواقع وتغير النفوس ورقة الدين وضعف الإيمان وندرة الأكفاء الملهمين؛ كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني وهو الأخذ برأي الأكثرية فنلزم الرئيس برأي الأكثرية. أما الدكتور وهبه الزحيلي فإنه في كتابه حق الحرية في العالم عند حديثه عن مدى الالتزام بالشورى أو هل الشورى ملزمة قد أورد جملاً مفيدة نختار منها قوله: هناك رأيان للعلماء، يرى جماعة أن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحرب وعند لقاء العدو وغير ذلك من التنظيمات الإدارية والإجرائية مندوبة أو مستحبة واختيارية تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار وتألفاً على الدين لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين، ولأن أبا بكر رضي الله عنه حينما استشار الناس في محاربة المرتدين لم ير غالبية المسلمين منهم عمر رضي الله عنه قتالهم وأخذ أبو بكر رضي الله عنه برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، وذهب آخرون إلى أن الشورى واجبة، وهو الراجح المتفق مع الكرامة الإنسانية والحرية والمشاركة السياسية في مصائر الأمة فيكون الحاكم ملزم، برأي أغلب المستشارين من أهل الحل والعقد عملاً بالأوامر القرآنية بالشورى، ويصبح الأمر بها عديم الأثر إذا لم يلتزم الحاكم بنتيجتها وقد عمل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الراشدين من بعده، أما الأمر القرآني بالشورى فهو قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} والأصل في الأمر الوجوب ولأن القرآن الكريم وضعها بجانب ركنين مهمين هما الصلاة والزكاة في آية وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وسئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم في آية: {فَإِذَا عَزَمْتَ} فقال: «هو مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم».
قال الشيخ محمد الغزالي: أخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة، فما جدواها إذاً وما غناها في تقويم اعوجاج الفرد إذا كان من حقه أن لا يتقيد بها وأين في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأي مستشاريه ومضى في طريقه وحده، وبما استشهد بعضهم بموقف أبي بكر رضي الله عنه في حرب الردة واعتراض الصحابة له في قتاله من نطق بالشهادتين ومن بينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإصرار أبي بكر رضي الله عنه على موقفه ويمينه التي أقسمها على قتالهم إلى النهاية وهذا استشهاد يرد في غير موضعه، فقصة أبي بكر رضي الله عنه مع المرتدين ومانعي الزكاة لا تعني إلا أنه عرف الحق قبل عمر رضي الله عنه ثم ما لبث أن أقنع به صاحبه فأيد وجهة نظره واتفقا جميعاً على تنفيذها، وخطأ عمر في موقفه ابتداءً مع المرتدين كخطئه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين أنكر موته وتوعد من يقول به ثم ثاب إلى الحقيقة التي قررها أبو بكر رضي الله عنه في يقين وتؤدة. ويقول الدكتور الزحيلي أن الاختلاف في الرأي أثناء التشاور أمر طبيعي لا بد منه، والمهم أن يتوصل أهل الشورى في النهاية إلى رأي معين ومخالفة عمر رضي الله عنه في هذا لا تضر لأنها في أثناء النقاش وكل نقاش تتضارب فيه الآراء ثم ينتهي المتناقشون إلى رأي موحد، وهذا ما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما. ثم أورد الدكتور الزحيلي عدة ملاحظات نورد منها ما يلي:
أولاً: أنه يكره في الإسلام كرهاً شديداً الاستبداد بالرأي لأنه يغمط حقوق الآخرين ويمس كرامتهم ووجودهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الكبر بطر الحق وغمط الناس».
ثانياً: لا يسمح الإسلام للحاكم أن يحكم عن هوى أو أن يحكم حكماً مطلقاً فذلك لا يأتي بخير.
ثالثاً: الإسلام وإن أوجب على الحاكم الالتجاء إلى الشورى لكنه لم يوجب عليه اتباع الرأي المشور به لما يرى من تقدير المصلحة العليا ولما يطلع عليه من آفاق الأحداث، مع ذلك للحاكم وضع تشريع أو نظام خاص تفصيلي يلتزم الحاكم بمقتضاه الأخذ برأي معين في مسائل معينة.
رابعاً: أن الوضع السائد في عصرنا حيث تعقدت المعلومات والمعارف وازدحمت وبعد الناس عن الإسلام في هديه ودستوره وفقهه ولم تتوافر مقومات الاجتهاد بضوابطه الشرعية في الحاكم فلم يبق أمامهم إلا التشاور وتبادل الآراء والخبرات للاهتداء إلى أرشد الأمور وإلا وقعوا في هوة الانهيار والضياع.
خامساً: أن الحس المعاصر للبشرية هو الالتزام بحقوق الإنسان يفرض على الحاكم والدولة العناية بالمجالس الاستشارية وبالمؤسسات المختلفة التي تسهم في تحمل أعباء الدولة وأضحى بناء دولة المؤسسات هو شعار الدولة الحديثة. قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكُتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، قال وهذا دليل واضح على أن المراد بالعلماء ليس فقط علماء الشريعة وإنما المراد بهم أهل الاختصاص والخبرة بالأمور السياسية والتشريعية والاقتصادية والثقافية والحرفية. قال ومما سبق يتبين أن الإسلام في تقريره أصل الشورى في نظام الحكم أنه عدو للاستبداد السياسي والتحكم الفردي والطغيان الدكتاتوري فلا يقبل من مخلوق مهما كان معتزاً برأيه أن يفرض على مجتمعه آراءه الخاصة التي لا تنضجها الشورى ولا تصدر عن خبرة ووعي للماضي والحاضر والمستقبل فإن الشورى ترشد للخير حتى لصالح المستبد وشعبه وهي المجال المتعين لترجيح رأي على غيره.
قلت وهذا الكلام في غاية من الجودة، ففائدة الشورى تتمحور في إلزاميتها، فهي التعبير الحقيقي عن وحدة الأمة وحريتها، ولا مناص من العمل بالشورى إذا ما أرادت الأمة أن تسير على منهج الله. وقد قال الدكتور محمد أبو فارس أن القول بأن الشورى ملزمة تقتضيه المصلحة العامة وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله. وإلى ذلك انتهى خالد أبو سمرة في دراسته الشورى في الإسلام إلى ترجيح الرأي القائل بالشورى وإلزاميتها. والأدلة من الكتاب والسنة تقتضي ذلك وأن الحكم هو إلزامية الشورى سواءً كان ذلك في الوظائف الهامة كما ورد في حديث: «لو كنت مؤمراً أحداً من غير مشورة لأمرت ابن أم أعبد»، أو في غير ذلك. فقد ورد في حديث آخر النهي عن الانفراد بالرأي كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: قلت يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا؟ قال صلوات الله وسلامه عليه: «شاوروا فيه العلماء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة»، والحديث جاء بصيغة الأمر والأمر في صيغة افعل يدل على الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه إلى الندب كما هو مقرر في الأصول كما أنه تضمن النهي عن أن يمضي فيه رأي خاصة أي برأي خاص دون شورى، والنهي أيضاً في صيغة لا تفعل تدل على التحريم ما لم ترد قرينة صارفة إلى الكراهية، فدل الحديث على أن الشورى واجبة وأن تركها محرم. وقال أبو الأعلى المودودي بعد أن نقل الحديث بلفظ يقارب ما ذكرناه أن المراد بالعابدين في هذا الحديث هم الذين يعبدون الله ولا يتخذون ما يروق لهم من طرق وتدابير في تحرر تام وليس صواباً أن نفهم من هذا المعنى أن التشاور مع من نرى فيهم صفة العبادة وحدها ونغفل الصفات الأخرى التي لا بد من توافرها فيهم ليكونوا أهل الرأي والمشورة.
أما أبو فارس فهو يرى أن الحديث فيه دلالة على أن الإسلام يرفض أن تسير الجماعة برأي فرد بل يقرر على أن الجماعة تسير برأي أهل الشورى الجماعي.
قلت والحديث صريح في إلزامية الشورى، والسيرة العملية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم دالة على ذلك، والدلالة على وجوب الشورى واضحة من الكتاب والسنة، فيكون حكم نتيجتها الإلزام.